إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى شباب واعٍ ومبادر يجعل من التطوع جزءاً من حياته وقيمةً مضافة لمسيرته. فالشباب هم الطاقة المتجددة للوطن، وانخراطهم في خدمة مجتمعهم يعود عليهم بالنفع مثلما يعود على الآخرين؛ إذ يطوّر شخصياتهم ويصقل مهاراتهم وينمّي فيهم الثقة بالنفس وحس المسؤولية . وقد أثبت الواقع أن الشابات والشبان المغاربة متى وجدوا الفرصة والدعم، أظهروا إبداعاً وابتكاراً في العمل التطوعي وقدرة على التأثير الإيجابي المباشر في مجتمعهم . من هنا، ندعو كل شاب وشابة إلى ألا يترددوا في تخصيص جزء من وقتهم وجهدهم لخدمة قضايا إنسانية أو تنموية، كلٌ حسب ميوله وتخصصه – فمجالات التطوع لا حصر لها. كما ندعو من سبقوهم من ذوي الخبرة ورجال الأعمال والمؤسسات الخاصة إلى رعاية المبادرات التطوعية ودعمها مادياً ولوجستياً، إيماناً بأن الاستثمار في التطوع هو استثمار في مستقبل الوطن.
يُعد المغرب من أعرق المجتمعات التي أرست تقاليد راسخة في مجال التطوع والعمل التعاوني عبر التاريخ. فقد تجلّت قيم التضامن القبلي والتكافل الاجتماعي منذ قرون في صور متعددة؛ من أبرزها مبادرة التويزة التي ظهرت بين القبائل الأمازيغية كوجه من أوجه التعاون الجماعي، حيث تتكاتف الأسر والقبائل لإنجاز الأعمال الزراعية والبنائية بشكل طوعيalittihad.info. كما ازدهرت عبر التاريخ الإسلامي للمغرب ثقافة الوقف (الأوقاف) كإحدى أسمى صور التضامن الإنساني؛ إذ بادر المغاربة إلى وقف الأراضي والأموال لبناء دور العبادة والمؤسسات التعليمية والخيرية، والتكفل بالأيتام والأرامل والفقراءalittihad.info. وقد عزّزت هذه الأعراف المحلية (مثل التويزة والوقف والتعاون في الأعراس والجنازات) روح البذل والعطاء في المجتمع المغربي جيلاً بعد جيل. ولا عجب أن يُعرف المغربي عبر تاريخه بقيم الإيثار والعمل الجماعي؛ فقد شارك الأفراد طوعاً في أعمال جماعية كحفر قنوات الري التقليدية (الخطّارات) وبناء المنشآت الأساسية في القرىmaghress.com. ومع بدايات الاستقلال، تجلّت هذه الروح التطوعية بشكل أوضح في ملحمة طريق الوحدة عام 1957، حيث لبّى آلاف الشباب نداء الوطن لبناء طريق يربط شمال المغرب بجنوبه بسواعد المتطوعين، تخليداً لرؤية المغفور له محمد الخامسmaghress.com. تلك التجربة كانت مثالاً تاريخياً بارزاً على توظيف روح التطوع في بناء الوطن. ومع مرور الزمن، أخذ التطوع في المغرب يتطوّر في صوره وأهدافه حسب حاجات المجتمع؛ فإلى جانب التكافل التقليدي، برزت مبادرات تطوعية للدفاع عن القضايا الوطنية (مثل التطوع للمقاومة وجيش التحرير)، ثم للمساهمة في إنشاء البنية التحتية كمشاريع حفر الآبار وشقّ الطرق في العقود الوسطى من القرن العشرينalittihad.info. هكذا تراكم الرصيد التطوعي المغربي تدريجياً، مستنداً إلى قيم التضامن والتكافل المتجذّرة في الهوية الوطنية والدينية المتعددة الروافدalittihad.info، وممهّداً الطريق نحو مأسسة العمل التطوعي في صيغ جمعيات وتعاونيات حديثة مع دخول الدولة العصرية.
شهدت العقود الأخيرة ازدهاراً كمّياً ونوعياً للعمل التطوعي في المغرب، تجسّد في تنامي عدد الجمعيات والنشاطات التطوعية بشكل ملحوظ. فالمغرب ملتزم بحرية تأسيس الجمعيات والعمل المدني، وقد بلغ عدد الجمعيات المسجّلة قانونياً حوالي 268 ألف جمعية بحلول سنة 2023 تنتشر في مختلف جهات المملكةalyaoum24.com. تغطي هذه الجمعيات طيفاً واسعاً من المجالات: التنمية الاجتماعية، التعليم، الصحة، البيئة، تمكين المرأة والشباب، الثقافة والرياضة وغيرها، وتعتمد غالبيتها على الجهود التطوعية للأعضاء والنشطاء لتحقيق أهدافها. ويُلاحظ انخراط متزايد للشباب المغربي في الحملات التطوعية والمبادرات التضامنية خلال السنوات الأخيرة، حيث باتت كل مدرسة أو جامعة تحتضن عدة أندية وجمعيات طلابية يعمل شبابها بروح من المسؤولية والتفاني ولا يدخرون جهداً لمساعدة الآخرين كلما دعت الحاجةespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. هذه الدينامية الشبابية تعد من أبرز مكتسبات الوضع الراهن، إذ تُساهم في ترسيخ قيم المواطنة النشطة وروح المبادرة لدى الجيل الصاعد.
بالرغم من هذا الزخم الإيجابي، تواجه ثقافة التطوع في المغرب جملة من التحديات التي تحدّ من توسيع أثرها. فمن الناحية المؤسسية، تعاني العديد من الجمعيات التطوعية من نقص حاد في الموارد البشرية والمالية واللوجستية، إذ تفيد دراسة للمندوبية السامية للتخطيط أن أزيد من نصف الجمعيات في المغرب لا تتوفر على مقر خاص بها وتعتمد غالباً على مواردها الذاتية المحدودة، فيما لا تتجاوز مساهمة الدولة في تمويل القطاع الجمعوي نسبة 8%espaceconnaissancejuridique.wordpress.com. كما تشكو بعض الجمعيات من صعوبات إدارية وبيروقراطية قد تصل أحياناً إلى تعسّفات أو تضييقات في تفعيل الحق في التنظيم، مما يحدّ من حرية حركتها ويكرّس لدى فئات من المجتمع نظرة عدم تشجيع تجاه العمل الجمعوي التطوعيespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. وعلى المستوى الثقافي، لا يزال هناك خلط مفاهيمي بين التطوع بمفهومه الحديث (volontariat) والتطوع التقليدي غير المؤدى عنه (bénévolat)، نتيجة غياب إطار قانوني واضح لفترة طويلة يميّز بينهما وينظم حقوق المتطوعين وواجباتهمespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. أضف إلى ذلك محدودية برامج التكوين والتأهيل الخاصة بالمتطوعين؛ فكثيراً ما يواجه الشباب المتطوع نقصاً في التدريب على تنظيم الحملات وآليات التمويل والتواصل وسبل الترافع، مما يؤثر على فعالية مبادراتهمespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. ومع ذلك، تلوح فرص واعدة لتعزيز العمل التطوعي في المغرب بفضل توفر رأسمال بشري شاب وواعٍ، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت تنظيم الحملات التطوعية وحشد الدعم بسرعة وفعالية. كما أن التجارب الميدانية أثبتت تنامي حس التضامن لدى المواطنين في أوقات الأزمات (كما سيأتي لاحقاً من أمثلة)، مما يؤكد أن بناء ثقافة التطوع ممكن عبر معالجة التحديات المذكورة وخلق بيئة مؤاتية لاستثمار طاقات المتطوعين بشكل أمثل.
انعكست الأهمية المتزايدة للعمل التطوعي في المغرب على سياسات الدولة ورؤيتها الاستراتيجية خلال العقد الأخير. لقد كرّس دستور 2011 دور المجتمع المدني والعمل التطوعي كمكوّن أساسي في بناء الديمقراطية التشاركية، واعتبر المبادرات التطوعية مصدرًا من مصادر الرأسمال الاجتماعي الوطنيmjcc.gov.ma. ويعكس الخطاب الرسمي المغربي الراهن إيماناً عميقاً بأن تعزيز المشاركة المواطنة – وخاصة عبر التطوع – هو رافعة محورية لتحقيق التنمية البشرية المستدامة وتقوية أواصر الثقة والتضامن بين أفراد المجتمعmjcc.gov.ma. وفي هذا الإطار، عملت السلطات العمومية على سد الفراغ القانوني الذي طالما اكتنف مجال التطوع. فقد صادق البرلمان في يوليوز 2021 على القانون رقم 06-18 المنظم للتطوع التعاقدي، والذي دخل حيز التنفيذ بموجب الظهير 1-21-85 الصادر في 5 غشت 2021mjcc.gov.ma. يعرّف هذا القانون التطوع التعاقدي بأنه “كل نشاط يقوم به شخص أو أكثر، خارج نطاق أسرته أو دراسته أو وظيفته، بشكل طوعي وبدون أجر، بموجب عقد مكتوب بينه وبين الجهة المنظمة للعمل التطوعي، بهدف تحقيق منفعة عامة”mjcc.gov.ma. ويُنشئ هذا الإطار التعاقدي علاقة قانونية واضحة بين المتطوع والجهة المستفيدة (جمعية أو مؤسسة)، بما يضمن حقوق الطرفين ويحدد الواجبات مثل التأمين والحماية الاجتماعية وتسوية النزاعات المحتملة في سياق العمل التطوعيmaghress.com. لقد جاء هذا القانون ليضع حدّاً لفراغ تشريعي استمر لعقود، وليوفر بيئة جاذبة تُشجّع المزيد من المواطنين على الانخراط التطوعي من خلال آليات شفافة وتنظيمية حديثةmaghress.com. وتجدر الإشارة إلى أن العناية الملكية واكبت هذا الورش التشريعي الهام؛ حيث دعا جلالة الملك محمد السادس الحكومة والبرلمان في خطاب 12 أكتوبر 2018 إلى تيسير إجراءات التبرع والتطوعmaghress.com، وقد تُرجم هذا التوجيه عملياً بإعداد وإقرار قانون التطوع التعاقدي المذكور.
إلى جانب الجانب القانوني، تبنّت الدولة مبادرات وبرامج لتعزيز ثقافة التطوع وتأهيل المتطوعين، خاصة لدى الشباب. ففي عام 2022 أطلقت وزارة الشباب والثقافة والتواصل برنامجًا وطنياً يحمل اسم “متطوع” يستهدف الفئة العمرية 18 – 22 سنة، بهدف إشراك أكثر من 5000 شابة وشاب من جميع جهات المغرب في أعمال تطوعية منظمة وتكوينهم وتأطيرهم لترسيخ قيم المشاركة المواطنةalittihad.info. يركز هذا البرنامج على مجالات حيوية تشمل البيئة والتنمية المستدامة والتضامن والتعاون والتعليم والثقافة والصحة والرياضة وريادة الأعمال الاجتماعيةalittihad.info، في مسعى لخلق جيل جديد من المتطوعين المؤهّلين والقادرين على قيادة مبادرات مجتمعية ذات أثر. كما دأبت المملكة على الاحتفاء بالعمل التطوعي من خلال فعاليات سنوية (مثل اليوم العالمي للتطوع في 5 دجنبر) وإطلاق جوائز تشجيعية للعمل المدني (مثل جائزة المجتمع المدني التي تمنح سنوياً لأفضل المبادرات الجمعوية منذ 2017). جميع هذه السياسات تعبّر عن وعي رسمي متزايد بأهمية تأطير العمل التطوعي واستثماره كرافد للتنمية والتماسك الاجتماعي. ولا شك أن استمرار دعم السلطات لهذه الثقافة – تشريعاً وتمويلاً وتكوينا – سيساهم في تجاوز العقبات القائمة وإطلاق طاقات التطوع الكامنة لدى شرائح أوسع من المواطنين.
تُمثّل الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني العمود الفقري للحركة التطوعية الحديثة في المغرب، وهي الفضاء الذي يجد فيه المتطوعون إطاراً منظماً لخدمة مجتمعهم. لقد شهد العمل الجمعوي طفرة عددية في العقدين الأخيرين – كما سبقت الإشارة – ما يعكس تعطش فئات واسعة (وخاصة الشباب) للمشاركة في تطوير محيطهم عبر مبادرات ذاتية. وتؤدي الجمعيات المغربية اليوم أدواراً بالغة الأهمية تكمّل أدوار الدولة وتسد بعض الثغرات في تلبية احتياجات الساكنة؛ حتى أن الخطاب الرسمي صار يعتبر الفاعل الجمعوي شريكاً محورياً في تحقيق التنميةespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. فمع تعدد مجالات اشتغال الجمعيات (تنمية، تعليم، صحة، بيئة، ثقافة، رياضة… إلخ) تعددت كذلك الرهانات المنتظرة منها، وأُوكلت إليها مهام تحسين ظروف العيش محلياً وتوفير الخدمات الأساسية، بل وحتى المساهمة في حماية البيئة وصون التراث ورعاية الفئات المهمشةespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. وفي كثير من المناطق، أضحت الجمعيات المحلية ركيزة للتغيير الإيجابي، حيث تعتمد عليها الدولة في إيصال البرامج الاجتماعية (كالقوافل الطبية وحملات محو الأمية والدعم الغذائي) إلى المستفيدين بشكل أكثر مرونة وسرعة مما تتيحه الأجهزة الرسمية. هذا الاتساع في أدوار المجتمع المدني رفع من حجم المسؤولية على عاتق الجمعيات، والذي يفوق أحياناً إمكاناتها المادية والبشريةespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. فبرغم التقدم في الإطار القانوني والحريات العامة، لا تزال العديد من الجمعيات التطوعية تعاني من ضعف الموارد المالية وغياب مقرات والتزامات نفقات التشغيل، مما يحد من قدرتها على تحقيق كل الأهداف المنوطة بهاespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. ومع ذلك، ورغم هذه الإكراهات، أثبتت الجمعيات كفاءة وابتكاراً في إطلاق مبادرات تطوعية تفوق في أثرها أحياناً برامج الهيئات الرسمية. وقد سُجّل خلال جائزة المجتمع المدني لعام 2017 مثلًا بروز مبادرات مدنية مبدعة استطاعت الوصول إلى شرائح لم تصلها المصالح الحكومية، وهو ما يبرهن على أهمية دعم هذا الزخم الأهليmaghress.com. إن دور الجمعيات لا يقف عند التنفيذ الميداني فحسب، بل يتعداه إلى تأطير المتطوعين الجدد ونشر الوعي بثقافة التطوع وقيم المواطنة. فكثير من الشباب يتعرفون لأول مرة على العمل التطوعي عبر الانخراط في جمعية طلابية أو محلية، حيث يكتسبون مهارات العمل الجماعي والتواصل والمسؤولية الاجتماعية. وهنا تبرز ضرورة تمكين هذه الجمعيات نفسها عبر التكوين وبناء القدرات (وهو ما بدأت تلتفت إليه الدولة عبر برامج تكوين عن بعد ومراكز للتدريب على التطوع والمواطنةmaghress.com). خلاصة القول، إن المجتمع المدني المغربي هو قاطرة تفعيل ثقافة التطوع على أرض الواقع، وبالتالي فإن تقوية جمعياته وتمكينها هي استثمار مباشر في إشاعة روح التطوع وخدمة الصالح العام.
على الرغم من غنى التجربة التطوعية تاريخياً في المغرب، فإن تأطيرها القانوني ظل متأخراً إلى حد كبير حتى السنوات الأخيرة. فباستثناء قانون الحريات العامة لسنة 1958 الذي نظم حق تأسيس الجمعيات، لم يكن هناك تشريع خاص يحدد وضعية المتطوع وحقوقه وواجباته بشكل صريح، وظل النشاط التطوعي يُمارس ضمنياً تحت مظلة عمل الجمعيات والخدمات الاجتماعية دون تعريف قانوني مستقل. هذا الوضع أنتج فراغاً تشريعياً وترتب عليه خلط بين المفاهيم كما سلف الذكر (بénévolat vs. volontariat)espaceconnaissancejuridique.wordpress.com، وأثار إشكالات تتعلق بتحمل المسؤولية القانونية حال وقوع حوادث أثناء النشاط التطوعي، أو تغطية المتطوعين بالتأمين، أو تنظيم العلاقة بينهم وبين الجهات المستفيدة. أمام هذه النواقص، جاء القانون الجديد للتطوع التعاقدي رقم 06-18 لعام 2021 كتطور تشريعي جوهري انتظره الفاعلون المدنيون لسنوات. فقد وضع هذا القانون تعريفاً رسمياً للعمل التطوعي وميّزه عن العمل المؤدى عنهmjcc.gov.ma، وأقر ضرورة إبرام عقد مكتوب يُبيّن حقوق المتطوع (مثل التغطية التأمينية والحماية الصحية والتعويض عند الضرر) وواجباته (الالتزام بأخلاقيات العمل وتوجيهات الجهة المنظمة)maghress.com. كما حدّد القانون شروط ممارسة التطوع التعاقدي (كالسن القانونية والترخيص للمتطوعين الأجانب وغيرها) وآليات تتبع وتقييم برامج التطوع لضمان انسجامها مع أهداف النفع العام. ومع أن صدور هذا القانون ملأ فراغاً تشريعياً كبيراً وخلق إطاراً قانونياً حديثاً يُواكب المفاهيم الدولية للعمل التطوعي، إلا أن بعض المراقبين يرون أن التحدي الآن يكمن في تفعيل مقتضياته عملياً وتعريف عموم الجمعيات والمتطوعين بمضامينه. فلا تزال الحاجة قائمة إلى نصوص تنظيمية (مثل المرسوم التطبيقي الذي صادق عليه مجلس الحكومة في فبراير 2023) لضبط كيفية تسجيل المتطوعين وتتبع أنشطتهم وتفعيل الامتيازات التي يمنحها القانون الجديدmapexpress.ma. كما أن هناك دعوات لمواصلة تطوير الترسانة القانونية عبر مثلاً إحداث يوم وطني للتطوع بصفة رسمية (وقد قدّم المركز المغربي للتطوع والمواطنة ملتمساً في هذا الصدد)maghress.com، وأيضاً عبر إدماج العمل التطوعي في منظومة المحاسبة الوطنية للاعتراف بقيمته الاقتصادية والاجتماعيةmaghress.com. بصفة عامة، يمكن القول إن المغرب دخل منعطفاً جديداً في مأسسة العمل التطوعي، مع الانتقال من مرحلة الفراغ القانوني إلى مرحلة البناء التدريجي لنظام قانوني متكامل. وما يُعزّز التفاؤل هو الدعم السياسي العلني لهذا الورش (سواء من قبل جلالة الملك أو الحكومة) والرغبة المشتركة لدى الفاعلين المدنيين والرسمين في ترقية العمل التطوعي إلى مرتبة تليق بإسهاماته ودوره المنتظر في التنميةmaghress.com. ومع تراكم التجربة خلال السنوات القادمة، سيتضح مدى كفاءة هذا الإطار القانوني في رفع جاذبية التطوع واستقطاب مزيد من المواطنين للانخراط في صفوف المتطوعين.
قياس حجم الظاهرة التطوعية في أي مجتمع ليس بالأمر اليسير، لكن بعض الأرقام والمؤشرات الحديثة تتيح فهم مدى انتشار ثقافة التطوع في المغرب وتركيبتها الديمغرافية. وفقًا لتقديرات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يبلغ عدد المتطوعين النشطين في المغرب أكثر من 350 ألف متطوع (والعدد في تزايد مستمر)maghress.com. هذا الرقم يُمثّل الأشخاص المنخرطين بانتظام في أعمال تطوعية منظمة عبر الجمعيات والمؤسسات المختلفة. وإذا ما قورن هذا الرقم بعدد السكان، فهو لا يزال دون الطموح (بضعة في المئة فقط من قوة العمل مثلاً)، مما يعني وجود مجال واسع للتطوير وزيادة معدلات التطوع المجتمعي. وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع عدد الجمعيات النشطة إلى حوالي 260 ألف جمعية كما ذُكر يعكس ضمنياً توسّع قاعدة المتطوعين أيضاً، لأن كل جمعية تستقطب في العادة مجموعة من الأعضاء والمتعاونين بدون أجر. وقد أظهرت دراسات سوسيولوجية أن الفئات العمرية الشابة هي الأكثر نشاطاً في العمل التطوعي بالمغرب، حيث تُشكّل الفئة بين 15 و30 سنة نسبة معتبرة من المتطوعين بحكم حماس الشباب ووعيهم المجتمعي ورغبتهم في اكتساب الخبرةespaceconnaissancejuridique.wordpress.com. كما أن فئة الطلبة والمتعلمين هي الأكثر مساهمة مقارنة ببقية الفئات، إذ تنتشر ثقافة التطوع بشكل أكبر في الأوساط الجامعية والمدرسية من خلال النوادي الطلابية وحملات التوعية والمخيمات الصيفية وغيرها. أما على مستوى نوعية الأعمال التطوعية الأكثر إقبالاً في المغرب حالياً، فتشير ملاحظات الميدان إلى أن الأنشطة الخيرية والاجتماعية (كإعانة الفقراء ورعاية الأيتام وحملات الشتاء والصحة) تحظى بالنصيب الأكبر من اهتمام المتطوعين، تليها أنشطة التنمية المحلية (مثل تعليم الكبار والتنشيط الثقافي والرياضي لفائدة الشباب)، ثم المجالات البيئية (حملات التشجير وتنظيف الشواطئ…) التي شهدت بدورها اهتماماً متزايداً مؤخراً خاصة بين الأجيال الصاعدة. ومن بين الإحصائيات الحديثة اللافتة للانتباه، ما كشفت عنه دراسة حول العطاء الاجتماعي في المغرب عام 2023 من أن التبرعات الخيرية ارتفعت بنسبة 800% عقب فاجعة زلزال الحوز 2023facebook.com، مما يدل على حجم الهبة التضامنية الشعبية واستعداد الآلاف للمساهمة بوقتهم أو مالهم عند الأزمات. وعلى صعيد آخر، سُجل خلال جائحة كوفيد-19 اندفاع آلاف المتطوعين من الشباب لتوزيع الكمامات والمواد الغذائية على الأسر المحتاجة وتنظيم حملات التعقيم والتحسيس في الأحياء الشعبية. كل هذه الشواهد الكمية والنوعية تؤكد أن روح التطوع حاضرة ومتجذرة، لكنها بحاجة لمزيد من التأطير والرصد من خلال إحصاءات رسمية دورية لقياس معدل التطوع سنوياً وتطوره، بما يساعد صنّاع القرار والباحثين على فهم الظاهرة وتحسين السياسات الداعمة لها.
زخر المشهد المغربي عبر تاريخه الحديث بالعديد من المبادرات التطوعية الملهمة التي تركت أثراً عميقاً في المجتمع، وأصبحت نماذج يُحتذى بها في البذل والعطاء. فعلى الصعيد التاريخي، تظل ملحمة طريق الوحدة سنة 1957 واحدة من أكبر التجارب التطوعية الجماعية، إذ توافد آنذاك حوالي 12 ألف شاب متطوع من مختلف مناطق المغرب لشق طريق يربط بين الشمال والجنوب خلال بضعة أشهر، استجابة لنداء المغفور له الملك محمد الخامس مباشرة بعد الاستقلالmaghress.com. وقد أثمرت تلك الجهود المتفانية إنجاز مشروع وطني ما زال شاهداً إلى اليوم على قدرة العمل التطوعي الجماعي على تحقيق المستحيل. وفي السياق نفسه، لا يمكن إغفال حدث المسيرة الخضراء عام 1975، حين لبّى 350 ألف مواطن ومواطنة نداء الملك الراحل الحسن الثاني للتطوع والمشاركة في مسيرة سلمية تاريخية لاسترجاع الأقاليم الصحراويةmaghress.com. شكّلت تلك المسيرة مثالاً فريداً على حشد التطوع الشعبي لأجل قضية وطنية، وأبرزت قوة الوحدة والتلاحم المجتمعي في المغرب.
على مستوى المبادرات الميدانية التنموية، نجحت عدة جمعيات ومجموعات شبابية في إحداث فارق ملموس بفعل تطوعي خالص. من تلك النماذج مبادرة “قافلتي” التي أطلقها شاب مغربي عام 2015، وهدفها تنظيم قوافل طبية واجتماعية بشكل دوري للتضامن مع القرى النائية في أعالي الجبالarabhopemakers.com. قام متطوعو “قافلتي” بفحص وعلاج المرضى في البوادي، وتوزيع الأدوية والملابس والأغطية والمواد الغذائية على الأسر المحتاجة، بل والمساهمة في ترميم وإصلاح المدارس الابتدائية لخلق بيئة تعليمية أفضل للأطفالarabhopemakers.comarabhopemakers.com. وقد استطاعت هذه الحملة خلال عامها الأول استقطاب أكثر من 70 متطوعاً ومتطوعة، ونظّمت ما يزيد عن 23 نشاطاً خيرياً بين قوافل طبية وتضامنية وغيرها، مما جعلها علامة مضيئة في مشهد التطوع الشبابي المغربيarabhopemakers.comarabhopemakers.com. هناك أيضاً مبادرات أخرى ناجحة يقودها المجتمع المدني، مثل برامج القوافل الطبية التي تجوب المناطق القروية المحرومة بمشاركة أطباء وممرضين متطوعين لإجراء كشوفات وعمليات جراحية مجانية للسكان، وحملات التبرع بالدم التي تشهد إقبالاً كثيفاً من المتطوعين خاصة في أوقات الطوارئ (وقد تجلى ذلك بقوة إثر زلزال الحوز 2023 حيث اصطف الآلاف للتبرع بالدم وإنقاذ الجرحى). وكذلك نذكر الحملات الموسمية كـقوافل الشتاء التي تنظمها العديد من الجمعيات كل عام لتوزيع الأغطية والملابس على سكان الجبال في البرد القارس، ومبادرات شبابية حضرية مثل حملات إفطار الصائمين في رمضان أو إطعام المشردين في ليالي الشتاء. أما على نطاق وطني شامل، فتبرز برامج رعاية ملكية مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH) التي انطلقت عام 2005 بدفعة قوية من جلالة الملك محمد السادس، والتي تعتمد في تنفيذ مشاريعها الاجتماعية (محو الأمية، دعم التعاونيات، تأهيل البنية التحتية القروية…) على إشراك المتطوعين والجمعيات كشركاء أساسيينmaghress.com. كما تلعب مؤسسة محمد الخامس للتضامن (التي تأسست عام 1999) دوراً ريادياً في العمل الإنساني بالمغرب، وتقوم سنوياً بحملات تضامنية كبرى (قفة رمضان، حملة مواجهة برد الشتاء، دعم ذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها) معتمدة على شبكة واسعة من المتطوعين إلى جانب أطرها الرسميةmaghress.com. هذه الأمثلة وغيرها كثير تؤكد أن ثقافة التطوع حاضرة بقوة في نسيج المجتمع المغربي، سواء عبر مبادرات عفوية ظرفية أو مشاريع مؤسساتية مستدامة. فكلما برزت معاناة أو حاجة مجتمعية، تجد فئات من المغاربة تهب لسدّ الخصاص بإحساس عالٍ من المسؤولية والتآزر. ولعل أبلغ مثال معاصر هو الهبّة التضامنية الشاملة إثر زلزال الحوز 2023 (كما يظهر في الصورة أعلاه)، حيث هبّ المواطنون من كل فجّ عميق محمَّلين بالأطنان من المساعدات وقطعوا مئات الكيلومترات نحو القرى المنكوبة لتقديم يد العون وإغاثة إخوانهم المتضررينalalam.ma. هذه اللوحة الإنسانية المشرقة أظهرت للعالم أن قيم التكافل المتجذرة في المجتمع المغربي قادرة على التجلي بأبهى صورها في المحن والأوقات العصيبة، وأن روح التطوع هي بالفعل «ثروة لا مادية لبناء الوطن» كما وُصف في أحد المنتديات العربية للتنمية المجتمعية التي احتضنها المغرب
في ختام هذه الجولة حول وضعية التطوع في المغرب، يبرز أمامنا خلاصة أساسية مفادها أن العمل التطوعي قيمة حضارية وإنسانية راسخة في وجدان المغاربة، ومكوّن أصيل من مكونات الهوية الوطنية المبنية على التضامن والتآزر. لقد قطع المغرب أشواطاً مهمة في إحياء هذه الثقافة وتأطيرها وتنميتها، تاريخياً ومؤسسياً، لكن الطريق ما زال طويلاً لتحقيق الاستفادة القصوى من طاقات التطوع في بناء المجتمع. إن التحديات التي تواجه العمل التطوعي – من نقص موارد أو فراغات تنظيمية أو احتياجات تكوين – هي في الواقع فرص مقنّعة تدعونا جميعاً لبذل مزيد من الجهد والتعاون لسدها وتحويل التطوع إلى ممارسة مجتمعية واسعة الانتشار. فنشر ثقافة التطوع مسؤولية مشتركة بين الدولة ومؤسساتها من جهة، عبر توفير المناخ القانوني والدعم المادي والتكويني اللازم، وبين المجتمع المدني ووسائل الإعلام والتربية من جهة أخرى عبر التحسيس والتحفيز وإبراز النماذج المشرقة.
إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى شباب واعٍ ومبادر يجعل من التطوع جزءاً من حياته وقيمةً مضافة لمسيرته. فالشباب هم الطاقة المتجددة للوطن، وانخراطهم في خدمة مجتمعهم يعود عليهم بالنفع مثلما يعود على الآخرين؛ إذ يطوّر شخصياتهم ويصقل مهاراتهم وينمّي فيهم الثقة بالنفس وحس المسؤوليةmjcc.gov.ma. وقد أثبت الواقع أن الشابات والشبان المغاربة متى وجدوا الفرصة والدعم، أظهروا إبداعاً وابتكاراً في العمل التطوعي وقدرة على التأثير الإيجابي المباشر في مجتمعهمmjcc.gov.ma. من هنا، ندعو كل شاب وشابة إلى ألا يترددوا في تخصيص جزء من وقتهم وجهدهم لخدمة قضايا إنسانية أو تنموية، كلٌ حسب ميوله وتخصصه – فمجالات التطوع لا حصر لها. كما ندعو من سبقوهم من ذوي الخبرة ورجال الأعمال والمؤسسات الخاصة إلى رعاية المبادرات التطوعية ودعمها مادياً ولوجستياً، إيماناً بأن الاستثمار في التطوع هو استثمار في مستقبل الوطن.
إن مغرب الغد الذي ننشده هو مغرب متضامن قويّ البنيان، تسوده روح التعاون والمحبة بين أبنائه. ولن يتحقق ذلك إلا بترسيخ ثقافة العطاء بلا مقابل كجزء من التربية والممارسة اليومية. فليكن لكل واحد منا دور في هذا الورش النبيل؛ ولنجعل التطوع أسلوب حياة يمارس فيه المواطن مواطنته الفعّالة بأبهى تجلياتها. هكذا نبني معاً مغرباً متراصّ الصفوف، متشبّعاً بقيم التعاضد، وقادراً على مواجهة تحديات التنمية بروح جماعية لا تعرف المستحيل. وكما كان التطوع دوماً سنداً لوحدة الوطن وتقدمه، سيظل كذلك شعلة أمل نحو مستقبل أفضل بأيدي متطوعي هذا البلد المعطاء.
أجمل الأفكار تظل حبيسة الورق إن لم تجد من يمولها ويحولها إلى واقع.
Created By RAYTECH
جميع الحقوق محفوظة © CopyRight