في المقال السابق تحدثنا عن فضل الصدقة بالمال وبذل الأغنياء من أموالهم في سبيل الله. أما اليوم فنكمّل الموضوع ببيان جانبٍ آخر من البذل والصدقة، ألا وهو العمل التطوعي وبذل الوقت والجهد في الخير. إن كان الأثرياء يقدمون صدقات أموالهم، فإن غيرهم قادرون على تقديم صدقة من نوع آخر: صدقة الجهد والوقت في خدمة الناس والمجتمع. فالتطوع في الإسلام هو باب عظيم للأجر والخيرات، وهو بديل مبارك لصدقة المال لمن لا يملكه، بل حتى من يملك المال يمكنه مضاعفة أجره ببذل وقته وجهده في أعمال الخير.
ينظر الإسلام إلى العمل التطوعي على أنه لونٌ من ألوان الصدقة والقُربة إلى الله تعالى. فكل عمل خير يبذله المسلم ابتغاء وجه الله، مادّيًا كان أو معنويًا، هو صدقةٌ يؤجر عليهاmawdoo3.comhadeethenc.com. وقد وسّع النبي ﷺ مفهوم الصدقة ليشمل أعمالًا كثيرة ليست مالًا؛ فقال ﷺ: «كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدلُ بين الاثنين صدقةٌ، وتُعينُ الرجلَ في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميطُ الأذى عن الطريق صدقةٌ»khaledalsabt.com. فهذا الحديث النبوي الشريف يبيّن أن أبواب الصدقة متنوعة تشمل الإصلاح بين الناس، ومساعدة المحتاجين في حمل أمتعتهم، والكلمة الحسنة، والمشي إلى العبادة، وإماطة الأذى عن الطريق؛ فكلُّها أعمال تطوعية يُثيب الله عليها كأعمال خيرية.
وقد أكّد النبي ﷺ هذا المعنى في حديث آخر جامع، إذ قال: «على كلِّ مسلمٍ صدقةٌ». قالوا: فإن لم يجد (أي ما يتصدّق به من مال)؟ قال: «فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدّق». قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: «فيُعين ذا الحاجةِ الملهوف». قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: «فَيأمر بالخير» أو قال: «بالمعروف». قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: «فليُمسك عن الشرِّ فإنَّه له صدقةٌ»hadeethenc.com. في هذا الحديث العظيم يعلّمنا الرسول ﷺ أن الصدقة ليست محصورة في المال؛ فإن لم يقدر المسلم على التصدّق بماله، فبوسعه أن يعمل فيكسب ويتصدّق من كسب يده، فإن عجز عن العمل أو لم يتيسر له، انتقل إلى معاونـة المحتاج وإغاثة الملهوف، فإن لم يستطع فلينطق بالخير والمعروف ويدلّ عليه، فإن عجز عن ذلك أيضًا فليكفّ أذاه عن الناس فإن كفّ الشر عنهم صدقة له. وهكذا فتح الإسلام أبوابًا متعددة للصدقة ليستطيع كل مسلم أن يساهم في الخير بما يقدر عليهhadeethenc.comhadeethenc.com.
جاء القرآن الكريم بحضٍّ واضح على روح التطوع والتعاون على الخيرات. يقول الله تعالى في محكم كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}mawdoo3.com. هذه الدعوة الإلهية تجعل التعاون على فعل الخير مبدأً إسلاميًا أصيلًا، فكل عمل تطوعي يندرج تحت “البر والتقوى” هو مأمورٌ به في هذه الآية الكريمة. وكذلك يقول تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} – أي ابذلوا الخير وتطوعوا بالأعمال الصالحة عسى أن تفوزوا برضا الله وفلاح الدنيا والآخرة. وقد وعد الله تعالى بأن يجزي المحسنين على إحسانهم مهما كان نوعه، فقال سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} – فكل خير يقدمه المرء ابتغاء وجه الله لن يضيع عند الله بل يدخر له ثوابه وأجره العظيم.
أما السنة النبوية فجاءت زاخرة بالأحاديث التي ترغّب في أعمال التطوع والخير للناس. قال رسول الله ﷺ: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق»sunnah.com، أي لا تستصغر أي عمل خير مهما بدا صغيرًا، حتى طلاقة الوجه والتبسم في وجه الناس هي صدقة ومعروف. وهذا يحفز المسلم على المبادرة بكل خير ممكن وعدم التهاون في العطاء المعنوي أو الوقت والجهد، فرب عمل صغير يعظّمه الله بسبب إخلاص صاحبه. وروي أيضًا أن النبي ﷺ قال: «صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّرِّ تُطفئ غضبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ تزيد في العُمرِ»mawdoo3.com، لبيان أن أعمال الخير – مالية كانت أو بدنية – تثمر سلامةً في الدنيا والآخرة، وتزيد البركة في العمر والرزق بفضل الله.
ومن أعظم ما ورد في السنة في فضل نفع الناس ما رواه ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه»binbaz.org.sa. فهذه بشارة نبوية بأن الجزاء من جنس العمل؛ من يسعى لمساعدة الآخرين سيجد عون الله ومعونته سبحانه تحلّ عليه في قضاء حوائجه. أي دافع أقوى من أن يعلم الشاب المسلم أن كل ساعة يقضيها في التطوع لمساعدة محتاج أو تفريج كربة إنسان، فإن الله تعالى سيتولى قضاء حاجاته وتفريج كروبه جزاءً وفاقًاbinbaz.org.sa. وكذلك شبّه النبي ﷺ خدمة الضعفاء والمحتاجين بأعظم العبادات؛ فقال في حديث صحيح: «السَّاعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيل الله، وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتُر، وكالصائم الذي لا يُفطِر»khaledalsabt.com. وهذا تشبيه مذهل يجعل عمل التطوع لخدمة الأرامل والمساكين في منزلة الجهاد في الأجر، بل وفي منزلة صيام النافلة وقيام الليل من حيث الثواب. وما ذلك إلا لعظيم أثر هذا العمل المتعدي النفع في حياة الناس.
ولذلك فهم السلف والعلماء أن نفع المتطوع لغيره أفضل وأحبّ إلى الله من نفع يقتصر على نفسه. فالأعمال التطوعية ذات النفع المتعدي للناس يتعدى أجرُها وثوابُها ما يختصّ به المرء لنفسه فقطkhaledalsabt.com. وقد قال رسول الله ﷺ: «خير الناس أنفعهم للناس»، وقال أيضًا: «أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلم أو تكشف عنه كربةً…» (الحديث)؛ ففيه بيان أن الخيرية في الإسلام تقاس بمدى نفع المرء لغيره وإدخاله السرور على قلوب الناس وقضاء حاجاتهم. حتى إنه ﷺ قال: «لأن أمشيَ مع أخي في حاجته أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في مسجدي هذا شهرًا» – في إشارة إلى أن خدمة الناس وقضاء حوائجهم أولى من الاعتكاف نافلةً لما فيها من أجر عظيمislamweb.netislamweb.net.
يدخل تحت مظلة العمل التطوعي كل فعل خير يقدم فيه المرء منفعةً لمجتمعه أو لأفراد الناس دون مقابل مادي، ابتغاء الأجر من الله. وهذا يشمل مجالات واسعة لا حصر لها، يمكن للشباب المسلم خاصةً الانخراط فيها وفق قدراتهم واهتماماتهم. من أمثلة مجالات العمل التطوعي التي حث عليها الإسلام:
مساعدة الفقراء والمحتاجين: كإطعام الجائع، وتوزيع الصدقات العينية، والمساهمة في حملات الإغاثة الإنسانية. وقد قال ﷺ: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» – وهذا يشمل سدّ حاجات المحتاجين وإعانتهم بكل وسيلة ممكنة.
رعاية الأيتام والأرامل: كفالة الأيتام ماديًا أو رعايتهم معنويًا وتعليمهم والقيام على شؤون الأرملة التي لا معيل لها. وقد وعد النبي ﷺ كافل اليتيم بمرافقته في الجنة، وشبّه الساعي على الأرملة بالمجاهد كما مرَّkhaledalsabt.com.
إصلاح ذات البين وحلّ النزاعات: السعي بالصلح بين المتخاصمين وإطفاء الفتن والخلافات بين الناس هو عمل اجتماعي نبيل جعله النبي ﷺ صدقةً من أعظم الصدقات («تعدلُ بين الاثنين صدقةٌ»khaledalsabt.com).
التطوع في خدمات المجتمع: مثل المشاركة في تنظيف الأماكن العامة، وغرس الأشجار وحماية البيئة، وإماطة الأذى عن الطريق والتي جعلها الرسول ﷺ شعبةً من شعب الإيمان وصدقةً يؤجر عليها المرء كلما أزال ضررًا عن الناسkhaledalsabt.com.
زيارة المرضى وكبار السنّ: إدخال السرور على المريض بزيارته والدعاء له، أو مساعدة كبار السن وخدمتهم، هو من أعظم أبواب التطوع التي تُزرع بها الرحمة في المجتمع. قال ﷺ: «من عاد مريضًا نادى منادٍ من السماء: طِبتَ وطاب ممشاك وتبوأتَ من الجنة منزلاً» (حديث حسن) – وهذا جزاء من يهتم بمريض أو محتاج عيادة ورحمة.
التطوع بالعلم والنصيحة: تعليم من يجهل أمر دينه أو دنياه، والمشاركة في برامج التعليم المجاني أو حلقات تحفيظ القرآن أو محو الأمية، ونشر النصيحة والأمر بالمعروف بالحكمة، كلها أعمال تطوعية نفعها متعدٍ يعمّ others ويثاب فاعلها على كل من استفاد منها.
هذه مجرد أمثلة يسيرة من مجالات التطوع، وإلا فإن أبواب الخير لا حصر لها كما قال النبي ﷺ: «أبواب الخير كثيرة ومتعددة، لا يحصرها شيء». فليستغل الشاب المسلم طاقته ووقته فيما ينفع نفسه ودينه ومجتمعه، وليسأل الله التوفيق والإخلاص. وكلُّ إنسان يمكنه أن يجد دورًا يناسبه في ميادين التطوع؛ فمنهم من يجيد التنظيم والترتيب فيشارك بتنظيم الفعاليات الخيرية، ومنهم صاحب مهارة أو حرفة فيسخرها لمساعدة الناس مجانًا، ومنهم القوي فيحمل عن العاجزين، ومنهم المثقف فيوعي الناس وينشر الخير… المهم أن لا يبخل المؤمن بجهده وعلمه ووقته ما دام قادرًا على العطاء.
إن للتطوع في الإسلام فوائد عظيمة تعود على الفرد والمجتمع، منها ما هو روحي وإيماني، ومنها ما هو أخلاقي واجتماعي. نذكر أبرز هذه الثمار والفوائد بإيجاز:
نيل رضا الله والأجر العظيم: المتطوع في سبيل الخير يبتغي وجه الله، فيجد أثر ذلك أجورًا مضاعفةً يوم القيامة. وكل عمل تطوعي يعمله المسلم يسجله الله له في ميزان حسناته كما وعد: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره}. وقد مرَّ معنا أن الله يشكر لعبده تطوّعه بالخير ويعينه؛ «فإن الله شاكرٌ عليم»quran.ksu.edu.sa – أي يقدّر تعالى للمحسن إحسانه مهما كان صغيرًا ويجزيه عليه أفضل الجزاء.
تزكية النفس وتقوية الإيمان: يشعر المتطوع بلذة العطاء والعمل لوجه الله مما يزكّي قلبه ويربّيه على الإخلاص وحب الخير. وقد قال بعض السلف: “خيرُ العمل ما كان دؤوبًا… وخيرُ الناس من عاش لأجل غيره”، فالتطوع يغرس في النفس قيمة الإيثار والتواضع وخدمة الآخرين، وهذا من كمال الإيمان إذ «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا».
تحقيق التكافل وبناء مجتمع متراحم: العمل التطوعي هو عماد التكافل الاجتماعي في الإسلام. فهو يقوّي روابط المحبة والأخوة بين الناس؛ الغني يعطف على الفقير، والقوي يعين الضعيف، والعالم يرشد الجاهل. وبذلك يسود المجتمع جو من الرحمة والتعاون كما أمر الله، وتُسدّ الثغرات الاجتماعية وتُلبّى حاجات المحتاجين. قال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد» – والتطوع تطبيق عملي لهذا التراحم والتعاطف.
استثمار أوقات الشباب وحمايتهم من الفراغ: حين ينخرط الشباب في أعمال تطوعية نافعة، فإنهم يملأون أوقاتهم بما يفيدهم ويفيد غيرهم، وهذا يبعدهم عن نزغات الشيطان ورفقة السوء ويعوّدهم على تحمل المسؤولية. فالشباب طاقة وثروة، إن لم تُستثمر في الخير ضاعت أو استُغلّت في الشر. ومن فضل الله أن أبواب التطوع دوماً مفتوحة لاستيعاب حماس الشباب وتوجيهه نحو البناء والإصلاح.
إن العمل التطوعي عبادة عظيمة وصدقة جارية للإنسان في حياته وبعد مماته. فما أجمل أن يسارع الشباب المسلم إلى تبنّي ثقافة التطوع كجزء من حياتهم اليومية وطريقهم لنيل رضا الله. ليتذكّر كل واحدٍ منا أنّ الدقيقة التي يبذلها في خيرٍ للناس لن تضيع، بل سيوفّيها الله له أضعافًا مضاعفة من الأجر والسعادة والبركة في الدنيا والآخرةbinbaz.org.sa. وقد مر بنا قول النبي ﷺ: «أحبّ الناس إلى الله أنفعهم للناس» – فهيّا لنكن من أحب عباد الله إليه بخدمة خلقه ونفعهم. لنغتنم صحتنا وشبابنا وأوقات فراغنا في ما يقربنا إلى الله وينفع إخواننا في الإنسانية؛ فهذا التفاني في عمل الخير هو ما يرفع الأمة ويحقق نهضتها الأخلاقية والإنسانية.
وأخيرًا، لنجعل التطوع منهج حياة اقتداءً برسولنا الكريم ﷺ الذي كان خير الناس للناس، فقد عاش في خدمة الضعفاء وقضاء حوائجهم، ولنتذكّر دومًا قوله ﷺ: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا»sunnah.com – فرب عمل تطوعي صغير يباركه الله فينمو ويثمر خيرًا عظيمًا لا يعلمه إلا الله. انطلق أخي الشاب وأختي الشابة إلى ميادين التطوع، وكونوا مشاعل نور وخير أينما حللتم، واعلموا أن الأمة تنتظر سواعدكم وهممكم لترتقي في مدارج الفلاح. جعلكم الله ممن يستعملهم في طاعته ونفع عباده، ورزقنا وإياكم الإخلاص وقبول العمل الصالح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أجمل الأفكار تظل حبيسة الورق إن لم تجد من يمولها ويحولها إلى واقع.
Created By RAYTECH
جميع الحقوق محفوظة © CopyRight